فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة، لهي أنفع وأجدى..
وفي نهاية هذا الاستعراض، وفي أعقاب المشهد الهائل الذي تتجلى فيه تلك الحقيقة الهائلة، يجيء التقرير الموضح لما وراء المعركة كلها. ووراء النصر فيها والهزيمة، من قاعدة ودستور لمجرى هذه الأمور:
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}.
إنها ليست فلته عارضة، ولا مصادفة عابرة، أن ينصر الله العصبة المسلمة، وأن يسلط على أعدائها الرعب والملائكة مع العصبة المسلمة.. إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، فاتخذوا لهم شقًا غير شق الله ورسوله، وصفا غير صف الله ورسوله. ووقفوا موقف الخلف والمشاقة هذا يصدون عن سبيل الله، ويحولون دون منهج الله للحياة.
{ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}.
ينزل عقابه الشديد على الذين يشاقونه ويشاقون رسوله. وهو قادر على عقابهم وهم أضعف من أن يقفوا لعقابه..
قاعدة وسنة. لا فلتة ولا مصادفة. قاعدة وسنة أنه حيثما انطلقت العصبة المسلمة في الأرض لتقريرألوهية الله وحده، وإقامة منهج الله وحده، ثم وقف منها عدوّ لها موقف المشاقة لله ورسوله، كان التثبيت والنصر للعصبة المسلمة، وكان الرعب والهزيمة للذين يشاقون الله ورسوله. ما استقامت العصبة المسلمة على الطريق، واطمأنت إلى ربها، وتوكلت عليه وحده، وهي تقطع الطريق.
وفي نهاية المشهد يتوجه بالخطاب إلى أولئك الذين شاقوا الله ورسوله.. إن هذا الذي حل بكم في الدنيا من العرب والهزيمة ليس نهاية المطاف. فأمر هذا الدين والحركة به والوقوف في طريقه، ليس أمر هذه الأرض وحدها، ولا أمر هذه الحياة الدنيا بمفردها.. إنه أمر ممتد إلى ما وراء هذه الأرض، وإلى ما بعد هذه الحياة.. إن أبعاده تمتد وراء هذه الآماد القريبة:
{ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار}.
فهذه نهاية المطاف. وهذا هو العذاب الذي لا يقاس إليه ما ذقتم من الرعب والهزيمة ومن الضرب فوق الأعناق ومن ضرب كل بنان!
والآن.. وقد أعاد عليهم مشاهد الوقعة وملابساتها، وأراهم يد الله فيها وتدبيره، وعونه ومدده، وعلموا منها أنهم لم يكونوا فيها سوى ستار لقدر الله وقدرته.. الله هو الذي أخرج رسوله من بيته بالحق- لم يخرجه بطرًا ولا اعتداء ولا طغيانًا- والله هو الذي اختار لهم إحدى الطائفتين لأمر يريده، من قطع دابر الكافرين {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}. والله هو الذي أمدهم بألف من الملائكة مردفين.. والله هو الذي غشاهم النعاس أمنة منه، ونزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجز الشيطان، وليربط على قلوبهم ويثبت به الأقدام.
والله هو الذي أوحى إلى الملائكة ليثبتوا الذين آمنوا، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب.. والله هو الذي أشرك الملائكة في المعركة وأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق وأن يضربوا من المشركين كل بنان.. والله هو الذي غنمهم الغنيمة ورزقهم من فضله بعد أن خرجوا بلا مال ولا ظهر ولا عتاد..
الآن.. وقد استعرض السياق القرآني هذا كله، فأعاده حاضرًا في قلوبهم، شاخصًا لأبصارهم. وهو يتضمن صورة من النصر الحاسم الذي لا يستند إلى تدبير بشري، ولا إلى قوة العدد ولا قوة العدة؛ إنما يستند إلى تدبير الله وتقديره وعونه ومدده؛ كما يستند إلى التوكل على الله وحده، والالتجاء إليه، والاستغاثة به، والسير مع تدبيره وتقديره..
الآن.. وهذا المشهد حاضر في القلوب شاخص للأبصار الآن.. وفي أنسب اللحظات لاستجابة القلوب للتوجيه.. الآن يجيء الأمر للذين آمنوا- بصفتهم هذه- أن يثبتوا إذا لقوا الذين كفروا؛ وألا يولوهم الأدبار من الهزيمة والفرار؛ ما دام أن النصر والهزيمة موكولان إلى إرادة فوق إرادة الناس؛ وإلى أسباب غير الأسباب الظاهرة التي يراها الناس؛ وما دام أن الله هو الذي يدبر أمر المعركة- كما يدبر الأمر كله- وهو الذي يقتل الكفار بأيدي المؤمنين؛ وهو الذي ينجح الرمية حين ترمى- وإنما المؤمنون ستار للقدرة يريد الله أن يجعل لهم ثواب الجهاد والبلاء فيه- وهو الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ويوهن تدبيرهم ويذيقهم العذاب في الدنيا والآخرة لأنهم شاقوا الله ورسوله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ذلكم فَذُوقُوهُ}
يجوز في: {ذَلِكُمْ} أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون مرفوعًا على خبر ابتداء مضمر، أي: العقاب ذلكم، أو الأمر ذلكم.
الثاني: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ، أي: ذلكم العقابُ وعلى هذين الوجهين؛ فيكون قوله: {فَذُوقُوهُ} لا تعلُّق لها بما قبلها من جهة الإعراب.
والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله: {فَذُوقُوهُ} وهذا على رأي الأخفشِ فإنَّهُ يرى زيادة الفاء مطلقًا أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشَّرط أمْ لا، وأمَّا غيرُهُ فلا يُجيز زيادتها إلاَّ بشرط أن يكون المبتدأ مشبهًا لاسم الشرك ما تقدَّم تقريره.
واستدلَّ الأخفشُ على ذلك بقول الشاعر: [الطويل]
وقَائِلَةٍ: خَولاَنُ فانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ** وأكرُومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا

وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه حَوْلاَنُ.
الرابع: أن يكون منصوبًا بإضمار فعل يُفسِّرهُ ما بعده، ويكون من باب الاشتغال.
وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكون نصبًا على: عليكم ذلكم فذوقوه كقولك: زيدًا فاضربه.
قال أبو حيان: ولا يَصِحُّ هذا التقدير، لأنَّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، وتشبيهُهُ بقولك: زيدًا فاضربهُ، ليس بجيّد؛ لأنَّهم لم يُقدِّرُوهُ بـ عليك زيدًا فاضربه وإنَّما هذا منصوبٌ على الاشتغالِ.
قال شهابُ الدِّين: يجوزُ أن يكون نَحَا الزمخشريُّ نحو الكوفيين؛ فإنَّهم يجرونهم مجرى الفعل مطلقًا، ولذلك يُعْمِلُونه متأخرًا نحو: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24].
وقال أبُو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي ذُوقُوا ذلكم، ويجعل الفعلُ الذي بعده مُفَسِّرًا له، والأحسن أن يكون التقدير: بَاشِرُوا ذلكم فذوقوه، لتكون الفاءُ عاطفةً.
قدَّر الفعل ير وافقٍ لما بعده لفظًا مع إمكانه، وأيضًا فقد جعل الفاء عاطفةً لا زائدةً وقد تقدَّم تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40].
قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} الجمهورُ على فتح أنَّ وفيها تخريجات أحدها: أنها، وما في حيَّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُعذاب النار للكافرين.
الثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم، أو الواجب أنَّ للكافرين عذاب النَّارِ.
الثالث: أن تكون عطفًا على: {ذَلِكُمْ} في وجهيه قاله الزمخشريُّ.
ويعني بقوله في وجهيه أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما.
الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة.
قال الزمخشريُّ: أو نصب على أنَّ الواوَ بمعنى مع والمعنى: ذُوقُوا هذا العذابَ العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهرَ موضع المضمر: يعني بقوله: وضع الظَّاهر موضع المضمر أنَّ أصل الكلام فذوقوه وأنَّ لكم فوضع {لِلْكافِرينَ} موضع {لَكُمْ} شهادةً عليهم بالكفر ومنبهةً على العلّة.
الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار واعلموا.
قال الفراءُ: يجوزُ نصبه من وجهين:
أحدهما: على إسقاط الباء، أي: بأنَّ للكافرين.
والثانى: على إضمارِ اعلموا؛ قال الشاعر: [الرجز]
تَسْمَعُ للأخشَاءِ عنه لغطًا ** وللْيَديْنِ جُسْأةَ وبَدَدَا

أي: وترى لليدين بدَدا، فأضمر تَرَى كذلك: {فَذُوقُوهُ} واعلموا: {أنَّ لِلْكافِرينَ}.
وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ.
وقال: لو جاز هذا لجاز: زيدٌ قائمٌ وعمرًا منطلقًا، أي: وترى عمرًا منطلقًا ولا يُجيزه أحدٌ.
ونبَّه بقول: {فَذُوقُوه} وهو ما عجل من القتل والأسر على أنَّ ذلك يسير بالإضافة إلى عذاب القيامة فلذلك سمَّاه ذوقًا لأن الذوق لا يكون إلاَّ لتعرف الطعم، فقوله: {فَذُوقُوهُ} يدلَّ على أنَّ الذوق يكون في إدراك غير المطعوم كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.
ذلك العذاب فذوقوه- أيها المشركون- مُعَجَّلًا، واعلموا أن للكافرين عذابًا مُؤجَّلًا، فللعاصين عقوبتان مُحَصَّلٌ بنقد ومؤخَّرٌ بوعد. اهـ.

.تفسير الآية رقم (15):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي بما أتاهم من عند ربهم {إذا لقيتم الذين كفروا} أي بآيات ربهم فشاققوه، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال: {زحفًا} أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم- وإن كانت سريعة- إلا مثلل الزحف {فلا تولوهم الأدبار} أي هربًا منهم وإن كنتم أقل منهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم، وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال، فيمشي كل فئة مشيًا رويدًا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب.
قال ثعلب: الزحف المشي قليلًا قليلًا إلى الشيء، ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين.
حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفًا} أي متزاحفين نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالًا للكفار، ويجوز أن يكون حالًا للمخاطبين وهم المؤمنون، والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا، ولذلك لم يجمع، والمعنى: إذا ذهبتم إليهم للقتال، فلا تنهزموا، ومعنى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار} أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم.
ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين: إحداهما: أن يكون متحرفًا للقتال، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم.
ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها، يقال: تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء.
والثانية: قوله: {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} قال أبو عبيدة: التحيز التنحي وفيه لغتان: التحيز والتحوز.
قال الواحدي: وأصل هذا الحوز، وهو الجمع.
يقال: حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع، ثم سمى التنحي تحيزًا، لأن المتنحى عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره.
إذا عرفت هذا فنقول: الفئة الجماعة، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن تحيز إلى جمع كان راجيًا للخلاص، وطامعًا في العدو بالكثرة، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلًا عن أن يكون ذلك جائزًا والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين. اهـ.